إن تطور العلوم الإنسانية عبر التاريخ مرافق لتطور الإنسان، ذلك أن وعي الإنسان هو انعكاس لظروفه المعيشية "ليس وعي الإنسان هو الذي يحدد وجوده، ولكن على العكس فإن وجوده الاجتماعي هو الذي يحدد وعيه" ماركس. لقد احتاج الإنسان إلى أربعة ملايين سنة حتى أصبح إنساناً اجتماعياً Homo Sapiens قبل أن يدخل العصر الحجري المبكر الذي بدأ 50.000 – 60.000 ق.م(1).
وكان النظام السائد هو المشاعية الأولى والأسر الصغيرة، وتطور إلى نظام القبائل مع ازدياد عدد السكان وازدياد التحديات.
وفي تلك الفترة تطورت حياة الإنسان من مرحلة القنص والصيد كعماد أساسي لغذائه وحياته إلى مرحلة امتلاك تلك الحيوانات وتربيتها في مرحلة الرعي، حيث كان الرجل يقضي وقته خارج البيت في الرعي والصيد، بينما بقيت المرأة في بيتها أو مغارتها مع الأطفال حيث اكتشفت الزراعة وأدخلت الإنسانية في عصر الزراعة وما تابعه من نقلة حضارية، بدأت في إنتاج فائض غذائها، وهذا أول نشوء الطبقات، وتبعه الاكتشافات الأخرى المهمة مثل اكتشاف النار والفخار ثم الأدوات والنسيج. واعتمدت الزراعة على الأمطار أول الأمر ثم كان لا بد من تنظيم مصدر دائم للمياه. وهكذا بدأت مرحلة تنظيم المياه، واحتاجت الحياة إلى تنظيم أشمل أوجد الدولة ذات السلطة في الفترة 4000 – 5000 ق.م. والتي بدأت في مصر وبلاد ما بين النهرين.
ونشأت التخصصات المختلفة في نواحي الحياة، وكانت المرأة هي أول طبيب لأطفالها ولزوجها، في عصر القنص والصيد، ثم أصبح هناك أشخاص متخصصون في مهنة الطب.
ولا شك أن الإنسان تعرض للأمراض كما تعرض للضعف والوهن، وقد حاول إزالة هذه العوارض التي تعيقه عن تأدية واجباته الحياتية نحو نفسه ونحو الأسرة والمجتمع،
وتراكمت المعلومات عن طريق التجربة والخطأ مرتبطة بالمستوى الإجتماعي الإقتصادي الذي يعيشه الإنسان الذي انعكس على وعيه وكون فلسفته في الحياة.
لقد بحث الإنسان الأول عن سبب لهذه الأمراض حوله، فلم يجد سبباً مباشراً ورد الأمر إلى إرادة إلهية خاصة استسلم لها أول الأمر، بدأ يخاف ويحترم كل ما لا يفهمه حوله، وتطور الأمر إلى تأليه كل القوى الأقوى منه، والتي لا يعرف لها تفسيراً، ثم فصل هذه القوى إلى قوى خيرة تفيده وتعمل لصالحه، وقوى شريرة تعمل ضد مصلحته، ومن ضمنها الأمراض التي عزاها إلى أرواح شريرة، وهذا هو محور المرحلة الروحانية وهي بداية نشوء الأديان. ولما اكتشف الإنسان قدرته على السيطرة على بعض هذه القوى المؤثرة سواء أكانت خيرة أو شريرة بدأت مرحلة السحر ومحاولة تطوير هذه السيطرة ومن الطريف ملاحظة أن كلمة Magic اللاتينية المشتقة من الفارسية تعني العلم، وكلمة Magician أي الساحر معناها الحرفي هو "العالم"(2). وكانت مقومات السحر كما يقول د.بول غليونجي(3).
الإعتقاد بوجود قوة خفية عليا – لا شخصية ولا مادية تنظم العالم.
المنطق الكاذب الذي يستقرئ السببية الزائفة من القياس السطحي: المثل من المثل والذي يربط الشيء بمثيله والشيء باسمه.
عدم إدراك الإنسان لفكرة الموت ردحاً طويلاً من الزمن كما هي الحال حتى وقتنا هذا لدى كثير من القبائل وعدم تمييزه بين الموت والحياة.
وقد بقي السحر أو "العلم القديم" محافظاً على أساليبه إلى يومنا هذا والتي تعتمد بشكل أساسي على شخصية الساحر والحركات التعبيرية التي يقوم بها للإيحاء من أجل تحقيق هدفه بالإضافة إلى التعويذة التي ما زالت تحتوي على كلمات غامضة وإصلاحات علمية لا يفهمها إلا أصحابها كما كانت اللغة اللاتينية لغة سرية سائدة في الطب حتى القرون الوسطى في أوروبا وكان السحرة يتوارثون السحر ويحافظون على سرية معلوماتهم (على المهنة) واستمر تطور السحر في إطار المحافظة على مقوماته وتطورت أساليبه تبعاً لتطور العلوم والمعلومات الإنسانية.
وتطورت الروحانية إلى اختيار الإنسان آلهة خاصة تكون حامية له ولأسرته ونشأت الديانات التوتمية Totemism التي اتخذت إلها للقبيلة كحيوان حرمت أكله، أو نهر حرمت الاستحمام به أو شجر نهت عن الاقتراب منه لرهبته أو الخوف منه. واعتبر من اجتاز هذه العقبة مقدساً يحل فيه روح الإله بل يصبح مماثلا للإله. وهنا نشأ الطب اللاهوتي الذي يعتمد على قدرة الإله، وعلى التضرع لهم والتقرب منهم والعمل على إرضائهم.
وحصل تزاوج بين السحر والطب اللاهوتي وشجع هذا التزاوج الكهنة الذين استأثروا بالاتصال بالإله بوسائل السحر. وأدى التطور الاجتماعي الإقتصادي إلى توحيد القبائل تحت الضغوط الخارجية والحروب بشكل خاص واحتفظت كل قبيلة بإلهها وأصبح إله القبيلة الحاكمة هو إله فوق الآلهة ورفع إلى مستوى إله الكون، وقد كان هذا إجراء سياسي ضروري أعطى للوحدة السياسية قوة ميتافيزيقية مثلما حصل عند توحيد مصر الوجه القبلي والوجه البحري في عهد مينا وتأليه رع إله الكون. وفي الوقت نفسه تقريباً كان يجري تراكم معلومات طبية تجريبية عن طريق التجربة والخطأ عن تأثير نباتات معينة على أمراض معينة أو تأثير أعمال معينة على الأمراض القابلة للتأثر كما كانت المعلومات تتراكم عن تشريح الحيوانات "ولطفت الصناعة، ورقت حواشيها في ذلك حتى استخرجت العجائب واستنبطت البدائع وأتى الثاني فوجد الأول وقد استخرج شيئا جربه فوجده حقا فاحتفظ به وقاس عليه وتعلم حتى استكملت الصناعة ولو تركنا مجيء مخالف وجدنا كثيرين موافقين وإذا غلط متقدم سدد له متأخر وإذا قصر قديم تعلم محدث هكذا في جميع الصناعات كذا الغالب على ظني"(4).
وقد اضطر الإنسان منذ البداية والمرأة بشكل خاص إلى تقديم الإسعافات الأولية لجروح الصيد وجروح الحروب بالإضافة إلى إسعاف الاضطرابات الباطنية والصداع وما تيسر من الأعراض المفاجئة في تلك الظروف. وهكذا تم علاج كسور وتجبيرها كما تبين الحفريات الأثرية، وتم إجراء عملية التربنة Trepanation أي فتح الجمجمة من أجل طرد الأرواح أو معالجة الصداع، وربما الصرع. كما اكتشفت نباتات كثيرة مسكنة للألم أو لمعالجة أمراض أخرى، ونشأت الاختصاصات الطبية مثل الجراحة والأمراض الباطنية وعلم الأدوية، هذا بالإضافة إلى الولادة التي أشرف عليها قابلات وعالجن الأطفال والرضع.
يقول سارتون "لا حاجة إلى التأكيد بقدم الطب المصري، ففي كل حضارة من الحضارات يتطور الطب مبكراً، لأن الحاجة إليه عامة ملحة دائماً بحيث لا يمكن إغفالها في أي بقعة من بقاع الأرض"(5). وقد اختلف العلماء العرب في نشأة علوم الطب فمنهم من قال بأقدميتها، ومنهم من قال باستحداثها، وحدد ابن أبي أصيبعة خمسة أقسام مبدئية في صناعة الطب(6).
القسم الأول :- أنه قد يكون حصل لهم شيء عن الأنبياء والرسل عليهم السلام بما خصهم الله تعالى من التأييد الإلهي.
القسم الثاني :- أن يكون قد حصل لهم شيء منها بالرؤيا الصادقة (الأحلام).
القسم الثالث :- أن يكون قد حصل لهم شيء منها أيضاً بالاتفاق والمصادفة.
القسم الرابع :- أن يكون قد حصل شيء منها أيضاً بما شاهده الناس من الحيوانات والاقتداء بأفعالها والتشبه بها.
القسم الخامس :- أن يكون قد حصل شيء منها بطريق الإلهام كما هو لكثير من الحيوانات.
وتعتبر بردية أدوين سميث 2500 – 3000 ق.م. أقدم كتاب طبي وصلنا حتى الآن، كما يعتبر امحوتب الطبيب المصري 2800 ق.م- والذي أصبح إله لاحقاً، أقدم وأشهر طبيب وصلتنا عنه معلومات عن أساليبه في العلاج والتي اعتمدت أساليب عملية في التشريح والتشخيص. وقد وصلت المهنة إلى مرحلة كبيرة من التقنية في عهد حمورايي 1686 – 1728 ق.م ولكن لم تصلنا معلومات طبية عن عهده.
وكانت هناك مدارس لتعليم الطب في منف وزيارات متبادلة بين الأطباء في البلدان المختلفة- كزيارة الطبيب بابلي لملك الحثيين حتوسيل عام 1280 ق.م. للتعلم من راباشا مردوخ الذي جاء من بلاد النهرين، وعمل طبيباً عند الحثيين والتقى بالطبيب المصري بارياماخو ولم تكن هذه الزيارة الوحيدة.
وعرفت الصين الحضارة في الألف الثاني قبل الميلاد، وظهر كونفوشيوس 551 – 479 ق.م. الداعي إلى الحياة الكريمة ومكارم الأخلاق.
وفي القرن الثالث قبل الميلاد ظهرت مجموعة من الكتب والتواريخ بعضها حول الطب والعلاج. وفي القرن الثاني بعد الميلاد ظهر أعظم أطباء الصين شانغ شو تشنغ Chang Chou-Ching ونقلت كتاباته إلى اليابان(7). وفي القرن الثالث ظهر الجراح الصيني هوانغ تشو Huang chou الذي كتب حول طريقة الوخز بالإبر لمعالجة المرض أو لتخفيف الألم والنبض وأنواعه واضعاً أساساً للصناعة الطبية.
وظهرت الحضارة في الهند في الألف الأولى قبل الميلاد تقريباً في وقت توسع الإمبراطورية الفارسي قورش. في هذا الوقت وضعت الأغاني فيدا والتي تعني العلم تتحدث عن أمراض وأعراض. وفي منتصف الألف الأول ظهرت مدرسة "علم الحياة" "ايو فيدا" وظهر أول الأطباء غير الكهنة، وكان جسم الإنسان يتكون من ثلاث عناصر هي الهواء والصفراء والبلغم. والمرض هو فقدان التوازن بين هذه العناصر. وظهر أشهر طبيب هندي في القرن الثاني قبل الميلاد كاراكا، ثم شوسروتا، في القرن الرابع وتحدث عن الجراحة أتى بها طبيب الآلهة دان فان تاري الذي أتى من المحيط(8).
ولا شك أن دراسة الطب في ذلك الوقت كانت متاحة في البلدان المختلفة فنحن نعلم أن أبو قراط وأفلاطون وسقراط قد زاروا المعابد المصرية وتلقوا علومهم في مدارسها وأن لم يأخذوا كل شيء فقد كانت القوانين في ذلك الوقت لا تبيح نقل هذه العلوم للأجانب. كما نعلم أن جالينوس قد درس في الإسكندرية وقد ساهمت التجارة والاتصال بين الشعوب في نقل المعلومات الطبية والخبرات الطبية في جميع العالم القديم فتجد تأثيراً هندياً وصينياً في الطب اليوناني والعكس أيضاً صحيح.